هل يبالغ الغرب في تقدير خطر الإسلام؟ نظرة جديدة على الشرق الأوسط

في كتابه القيم "ما الخطأ الذي يقع فيه الغرب بشأن الشرق الأوسط؟.. لماذا الإسلام ليس المشكلة؟"، يسعى عمر تسبينار، الأستاذ بجامعة الدفاع الوطني في واشنطن، إلى تسليط الضوء على الكيفية التي يؤدي بها الهوس الغربي بالإسلام إلى تشويش الرؤية وتحريف التحليلات للتطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط. ويؤكد أن هذا التركيز المفرط قد اتخذ منحىً خطيرًا، حيث بات يهدد الديمقراطية الغربية والنظام الدولي الليبرالي. ويشدد المؤلف، عبر صفحات كتابه الذي يبلغ 268 صفحة، على وجود نزعة نحو تضخيم دور الإسلام كمحرك أساسي لكافة المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تعصف بمنطقة "الشرق الأدنى"، ليصل إلى استنتاج مفاده أن "الإسلام ليس المشكلة المحورية، ولا الحل الجذري للمعضلة العربية". ومن هذا المنطلق، يأمل تسبينار في أن يؤدي فهم الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمشكلات، بدلًا من التركيز على جوهرها الديني المزعوم، إلى إعدادنا بشكل أفضل لمواجهة التوقعات القاتمة بصدام حضاري ذي جذور راسخة وعميقة.
ولكن ما هي الملامح الجديدة للصراع بين الغرب والإسلام؟ وما الذي يغذيه ويؤججه؟ وكيف يمكن تفكيكه واحتوائه؟ وما هي خطة العمل اللازمة لمنع وقوعه؟
تحويل صدام الحضارات إلى صراع هويات
إن الاعتقاد الخاطئ بإمكانية فك شفرة الأسباب الكامنة وراء التطرف العنيف، أو فهم "إشكالية العالم الإسلامي"، بمجرد تجديد الخطاب الديني، كما يرى البعض في العالم العربي، أو من خلال قراءة النصوص الدينية، كما تفعل بعض الدوائر الغربية، قد بات من سمات عصرنا الراهن.
ويرى تسبينار أننا نعيش في عالم تسوده سياسات الهوية، مما يفضي إلى البحث عن حلول مختصرة وسهلة للمشكلات المعقدة. وقد تبين أن الاعتقاد الراسخ بأن الدين قادر على تفسير كل العلل التي تعتري العالم الإسلامي، هو اعتقاد يصعب دحضه وتغييره. واليوم، في ظل صعود الترامبية في أميركا، والشعبوية الوطنية في مختلف أرجاء أوروبا، ترى أغلبية ساحقة أن الإسلام يمثل مصدرًا لانعدام الأمن، والعلامة الفارقة للهوية والصراع في منطقة الشرق الأوسط، وفي جميع القضايا الإقليمية تقريبًا، بدءًا من التحول السياسي الذي تشهده تركيا في عهد أردوغان، وصولًا إلى الانقلاب العسكري المصري الذي أطاح بجماعة الإخوان المسلمين، أو من صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، إلى الصراع الطائفي المحتدم بين السنة والشيعة.
إن أغلب الغربيين ينظرون إلى المنطقة بمنظار الإسلام، ويصدرون أحكامًا متشائمة للغاية، إذ يرون أنه لا ينسجم مع الديمقراطية والعلمانية والحداثة والمساواة بين الجنسين، وغيرها من القيم التقدمية التي يتبناها الغرب. كما يُنظر إليه على أنه دين استبدادي، متزمت، عنيف، وميال للقتال. ونادرًا ما تُعتبر هذه التعميمات الواسعة النطاق مجرد تأكيدات سطحية تستند إلى الحتمية الدينية والثقافية، كما يشير المؤلف.
إن الافتراض بأن الإسلام هو المصدر الرئيسي للهوية السياسية، وبالتالي السبب الجوهري وراء جميع المشكلات في الشرق الأوسط، يؤدي إلى تبني استراتيجيات مضللة في مجالات بالغة الحساسية، مثل مكافحة التطرف أو تعزيز الديمقراطية.
ويشير تسبينار إلى أنه قد جرى استبدال الصور النمطية الاستشراقية التي كانت تصور الإسلام ليس فقط على أنه دين و"طريقة حياة"، برأي آخر مفاده أن الإسلام هو المشكلة بحد ذاتها. وهذا التصور الغربي لا يغذي صدام الحضارات فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى تصاعد الإسلاموفوبيا. وتحمل هذه الرؤية الدين والعنف الديني مسؤولية معظم المشكلات الأمنية، وتقريبًا جميع التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تواجه البلدان الإسلامية.
يكمن الإشكال في هذه التصورات في كونها تستند إلى الحتمية الثقافية والدينية، وترى أن مستقبل المسلمين هو تكرار للماضي الغربي، وأن عليهم أن يسلكوا نفس المسار الذي سلكه الغربيون من قبل. وإذا كان الإسلام هو المشكلة المحورية، فلماذا لا يكون هو الحل الجذري أيضًا؟ هذا النوع من الحتمية الإسلامية يتسم بالجمود والثبات، على الرغم من أن التغيير هو السمة البارزة للعصر. ووفقًا لهذه الوصفة، لإنقاذ الإسلام من نفسه، فإن كل ما نحتاج إليه هو مارتن لوثر مسلم يقوم بإصلاح وتحديث وتعديل الإسلام، على غرار الصدام الذي شهده الغرب في القرن السادس عشر بين البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية.
إن الافتراض بأن الإسلام هو المصدر الأساسي للهوية السياسية، وبالتالي السبب الرئيسي لكافة المشاكل في منطقة الشرق الأوسط، يدفع باتجاه تبني استراتيجيات مضللة في مجالات حساسة، مثل مكافحة التطرف أو تعزيز الديمقراطية. صحيح أن العنف المتطرف والأنظمة الاستبدادية المختلة هي مشاكل حقيقية في العالم الإسلامي، لكن هذه الحقائق السياسية تحتاج إلى تحليل موضوعي، دون اللجوء المستمر إلى الحتمية الثقافية والدينية الكسولة. إن هوسنا بالإسلام، كما يرى تسبينار، يخلق وهمًا بصريًا كبيرًا يشوه الحقائق على أرض الواقع، تلك الحقائق التي تتطلب تحليلًا سياقيًا مفصلًا. وهذا السراب الإسلامي، في الوقت الراهن، يغذي التوتر والاستياء والاستقطاب المتزايد بين الغرب والشرق الأوسط، وإذا لم يتم التصدي له، فإنه سيؤدي إلى تفاقم الديناميكيات القوية بالفعل للإسلاموفوبيا، وينتج نبوءة أخرى مدمرة تحقق ذاتها: تطرف مجموعات كبيرة من الشباب المسلم في الشرق الأوسط وأوروبا. إن ولعنا بالإسلام لن يجعل الصراع الحضاري أبديًا فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى تأجيج مشاعر الاستياء والإحباط لدى ملايين المسلمين. إن هذه النظرة السطحية، ذات الدلالات العنصرية التي تبالغ في تقدير الطبيعة الخطرة للإسلام، ستمهد الطريق لما يخشاه الغرب أكثر من غيره: التطرف الأيديولوجي والعنف المتطرف في العالم الإسلامي.
ويرى الكاتب أن الهوس الغربي بالإسلام قد يكون أشد خطرًا من الإسلاموفوبيا، نظرًا لقدرته على استقطاب التيار العام؛ ففي حين أن الإسلاموفوبيا تفتقر إلى التأثير الفكري والجاذبية الجماهيرية، فإن المبالغة في تقدير الإسلام تجمع بين الأمرين معًا؛ فالتركيز على الإسلام يتردد صداه لأنه، على عكس خطاب الكراهية الذي تمثله الإسلاموفوبيا، يمثل مقولة تحليلية ونموذجًا تفسيريًا لكافة المشاكل التي يعاني منها المسلمون. وبينما تعتبر الإسلاموفوبيا ضربًا من العنصرية، فإن التركيز السياسي والاجتماعي والثقافي الحصري على الإسلام قد يكون أحيانًا أشد خطرًا من الإسلاموفوبيا؛ فبدون تشويه صورة الإسلام بطريقة متطرفة، فإنه يوفر الذخيرة اللازمة لأولئك الذين يرغبون في تطبيع وترشيد وإضفاء الشرعية على تصوير الإسلام كدين استثنائي خطير وسياسي للغاية.
باختصار، إذا لم يتم تحدي هذه الطريقة المنحرفة، فإن المبالغة في تقدير الإسلام قد تتلاقى في نهاية المطاف مع الإسلاموفوبيا. ويرى تسبينار أن أفضل طريقة لمعالجة هذا الفهم الغربي المتنامي لمنطقة الشرق الأوسط، تكمن في تحدي التحليل الخاطئ والمخاوف المثيرة الكامنة وراءه.
من صراع الأيديولوجيا إلى سياسات الهوية
إن التحدي الحقيقي الذي نواجهه في الظرف السياسي الراهن يتمثل في سياسات الهوية؛ فنحن نعيش في عصر تراجعت فيه الأيديولوجيات السياسية وقواعد الديمقراطية الليبرالية لصالح اختلافات فطرية بدائية؛ فالقومية والهوية العرقية والدين والجنس، كلها تشكل أجزاءً من ديناميكيات الهوية هذه. وتميل سياسات الهوية، خاصة على أيدي السياسيين الشعبويين، بطبيعتها إلى إثارة الانقسام والفرقة. وفي ظل غياب التسوية والبحث عن أرضية مشتركة، تعتبر "الهوية" في نظر الحتمية الثقافية محركًا أقوى بكثير للأحداث العالمية من الأيديولوجيا.
وفي عالم تهيمن عليه سياسات الهوية، تتشكل الخلافات السياسية والأيديولوجية على نحو متزايد من خلال "من نكون" وليس "بماذا نؤمن". بعبارة أخرى، تتفوق الهوية على الأيديولوجيا في الممارسة العملية الآن، وهذا يعني أن سياسات اليمين واليسار يتم استيعابها في المقام الأول في قضايا الهوية. فاليسار، على سبيل المثال، لم يعد مكرسًا بالكامل لإيجاد حلول اجتماعية واقتصادية لمشاكل الطبقة العاملة، بل يبدو أنه أكثر اهتمامًا بالتعددية الثقافية، وحقوق النوع الاجتماعي، ومجتمع المثليين، والصلاحية السياسية، والتفاوتات في الفرص والدخل والثروة، وفيه تم استبدال السعي لتحقيق المساواة بعبادة التنوع والاختلاف.
من ناحية أخرى، ينشغل اليمين باحتضان القومية الشعبوية والدين، وهما من الهويات التقليدية، كرد فعل على النسبية الثقافية وتداعيات العولمة، وهو يدافع عن المفاهيم "الجوهرية" و"الخالصة" للهوية والقيم التقليدية، في مواجهة ما يعتبره فقدانًا للسيادة وهيمنة للعولمة المستأصلة للأمة والدين والتقاليد. ونتيجة لذلك، يبدو أن السياسة اليوم تتمحور بشكل متزايد حول مسألة الهوية البدائية، بدلًا من الأيديولوجية السياسية.
ولكن عندما نخدش السطح، يتضح أن بعض المشاكل الثقافية والهوياتية التي تستقطب السياسة لا تزال لها جذور اجتماعية واقتصادية. إن صعود الشعبوية القومية والوطنية، وبرامجها المناهضة للهجرة، ما هو إلا نتاج واضح للديناميكيات الاقتصادية المتدهورة، ويبدو أن الإحباط الذي تعانيه الانتماءات الأولية الفطرية يتوازى مع شكاوى شرائح المجتمع الكبيرة التي لم يعد لديها طريق للحراك الصاعد. وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة للطبقة المتوسطة الدنيا والعمالة غير الماهرة في الاقتصاد المعولم.
وعلى هذا الأساس، يجب وضع سياسات الهوية في سياق اجتماعي واقتصادي مناسب، وسيكون من الخطأ الفادح اعتبارها منفصلة تمامًا عن الحقائق المادية. إن انعدام الأمن الاقتصادي والثقافي في عالم معولم يغذي الاستياء، ويعبر عن الغضب بلغة القومية والدين والحضارة، هكذا ينبهنا المؤلف.
ويشير الكاتب إلى أن تفاقم التفاوت في الدخل، وركود الأجور، والانتعاش الاقتصادي البطيء بشكل مؤلم، كلها عوامل اقتصادية حاسمة عززت صعود الشعبوية، بالإضافة إلى عوامل أخرى، مثل تدفق اللاجئين المسلمين، والحروب الأهلية في سوريا وليبيا، والهجمات الإرهابية في أوروبا وأميركا. وقد تضافرت كل هذه العوامل لتشكل "عاصفة هوجاء" مع تقارب حقائق الشرق الأوسط والركود العالمي، مما أوجد نوعًا أكثر شراسة من المذهب البدائي المتمحور حول الهوية وكراهية الأجانب.
وإذا أضيف إلى الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بالعولمة التهديد الذي يمثله الإسلام السياسي والإرهاب -كما يراه الغرب- فسوف نحصل على مزيج شديد الاشتعال.
عام 1979 كان حاسمًا لظهور الهوس بالإسلام؛ فقد كان مصيريًا لمستقبل العلاقات بين الشرق الأوسط والغرب. وقد تغيرت نقاط التحول، مثل الثورة الإسلامية في إيران، وحصار المسجد الحرام في مكة، والغزو السوفياتي لأفغانستان. كما مهدت هذه التطورات الإقليمية الطريق لنموذج جديد في العلاقات بين الغرب والإسلام، قبل وقوع الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، التي حولت مقولة صراع الحضارات إلى نبوءة تحقق ذاتها.
ووفقًا للمؤلف، فإن المشهد الراهن يتميز بموجة عاتية من القومية الغاضبة الموجهة ضد الإسلام، حيث "يلتقي صراع الحضارات بالموجة الجديدة من الشعبوية الوطنية". وقد شكلت الأحزاب الشعبوية المعادية للأجانب، واليمين المسيحي، والقوميون الرجعيون، تحالفًا غير مقدس ضد الإسلام؛ وهم معًا يشكلون نوعًا قويًا من القومية الدينية البارزة بشكل مقلق، وهذا يعني أن أوروبا الغربية والولايات المتحدة كانتا عرضة لقوة الشعبوية القومية والدينية، وأن الغرب لم يعد محصنًا من ذلك النوع من القومية الغاضبة التي تستحضر ذكريات الفاشية غير البعيدة.
عندما تتفوق الهوية على الأيديولوجيا، يصبح كل شيء مختلفًا؛ فاليمين لم يعد يستهدف الشيوعية، واليسار لم يعد يدافع عن الاشتراكية، وبدلًا من ذلك، تهيمن الحروب الثقافية على الساحة السياسية، ويصبح الصدام بين القيم الغربية والإسلام هو الموضوع المفضل للقوميين المتدينين.
ويلفت المؤلف انتباهنا لأمر هام، وإن لم يتوقف عنده مطولًا، وهو أن "القومية الشعبوية تعتبر الإسلام السياسي تهديدًا، ولهذا السبب فإن الإسلام السياسي، بعد كل شيء، هو النسخة الإسلامية من القومية الدينية المعادية للغرب والعولمة". وهذه النقطة جديرة بالنقاش المستفيض، باعتبارها أحد المحددات لطبيعة العلاقة بين الغرب والإسلام. وهنا نشير إلى تأثير أزمة الإسلام السياسي في حقبة الربيع العربي على مستقبل هذه العلاقة، وهل سيؤدي تصاعد اليمين الشعبوي إلى منح قبلة الحياة لحركات الإسلام السياسي؟
أسباب الهوس بالإسلام
إن لصدام الحضارات بين الإسلام والغرب جذورًا ثقافية أعمق، وصدىً جماهيريًا أوسع، من الصدام بين الرأسمالية والشيوعية؛ فالطبيعة البدائية للهوية غالبًا ما تكون عضوية ومحفزة أكثر من الطبيعة المبنية والمفروضة للأيديولوجيا، خاصة في حالة الشيوعية. بعبارة أخرى، تشويه صورة الإسلام أشد خطورة من تشويه صورة الشيوعية.
ويرى المؤلف أن عام 1979 كان حاسمًا لظهور الهوس بالإسلام؛ فقد كان عامًا مصيريًا لمستقبل العلاقات بين الشرق الأوسط والغرب. وقد تغيرت نقاط التحول في العالم، مثل الثورة الإسلامية في إيران، وحصار المسجد الحرام في مكة، والغزو السوفياتي لأفغانستان. كما مهدت هذه التطورات الإقليمية الطريق لنموذج جديد في العلاقات بين الغرب والإسلام، قبل وقوع الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي حولت مقولة صراع الحضارات إلى نبوءة تحقق ذاتها.
أما أسباب هذا الهوس، فهي الإرهاب والأزمات الاقتصادية والمالية للرأسمالية؛ فبالنسبة للأغلبية الكبيرة في الغرب، يسير الخوف من الإسلام جنبًا إلى جنب مع الخوف من الإرهاب. وبهذا، تحول الإسلام من دين غريب إلى تهديد أمني متزايد في سياق سياسي حديث نسبيًا، إلا أن هذا السياق السياسي المستقطب يتفاقم بسبب الديناميكيات الاقتصادية والمالية. فقد أدى "الركود الكبير" في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008 إلى تفاقم الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، ولا تزال أوروبا والولايات المتحدة تعانيان من التداعيات الاجتماعية والسياسية لأسوأ انكماش اقتصادي منذ الكساد العظيم. كما أصبحت الانتصارات الانتخابية الشعبوية ممكنة إلى حد كبير بفضل تشويه صورة الأعداء السياسيين، فالتضامن الجماعي يتطلب دائمًا سردية "نحن" مقابل "هم".
كما تزدهر الشعبوية وسياسة الهوية في سياق المعلومات المضللة، حيث لم تعد هناك حقائق يمكن التحقق منها. وبيئة المعلومات المتنازع عليها، ولا سيما الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، تمهد الطريق لإثارة الخوف والاستقطاب السياسي، وهناك ضغط هائل من أجل ظهور صورة أبسط للخير والشر في أوقات استقطاب الهوية.
الانتقال من الثقافة إلى السياسة
يقدم الكاتب أطروحته الأساسية التي تقوم على أنه: يجب أن يكون التركيز على الكيفية التي يمكن للديناميكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن تغير الميول الثقافية والأيديولوجية، وعلى أن تعترف المناقشة بالمشاكل في الشرق الأوسط وتتجاوز الدين. لكن الإشكال يكمن في أن المؤلف لا يستطيع تجاوز الدين، فهو يستحضره على أرضية القومية حين يعتبر القومية الدينية ومسألة الحكم هما المحددين الأساسيين المفسرين لتطورات المنطقة، من خلال دراسته لثلاث حالات هي تركيا الحديثة، والصراع السني الشيعي، وأخيرًا صعود داعش.
ويدعم نموذجه التفسيري، الذي ينتقل به من الثقافي إلى السياسي، أو بالأحرى إدراك الثقافي على أرضية السياسي، بعدد من الأسس المنهجية، أهمها:
- الفصل بين النص المقدس والخطابات الإسلامية: فالإسلام، مثله مثل معظم الأديان، مفتوح للتأويل، ويمكن استخدامه لتبرير السلام والتسامح والتعايش، أو في ظل ظروف مختلفة، يمكن تعبئته لشن الحرب. إن التعامل مع الإسلام كدين استثنائي يقاوم "دائمًا" السلام والديمقراطية والحداثة والعلمانية، يغذي الحتمية الثقافية والدينية، كما أنه من العبث القول إن الإسلام سيعزز دائمًا العدل والسلام والمساواة. إن مثل هذه التعميمات الواسعة النطاق تقع في قلب المغالطة الجوهرية.
- البحث عن سياقات الظواهر: فبدلًا من وحدة إسلامية متراصة معممة، يحتاج كل سياق محلي ومؤسسي إلى تمحيص مميز، ويضيف: "مشكلتي مع الأصولية وعكسها؛ استثنائية الإسلام، هي ميلهم التبسيطي إلى التركيز على النص المقدس مع تجاهل السياق السياسي. ما يهم أكثر بكثير مما يفترضه الإسلام، ونصّه المقدس القرآن، هو كيفية تفسير المسلمين لهذه الرسالة الإلهية الموحاة. ويعتمد تفسير الدين تقريبا ودائمًا على الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية". بعبارة أخرى، يشكل السياق تفسير النص، وليس العكس.
- دور محدود للدين: تمتلك العقيدة الدينية قوة محدودة فقط لتشكيل الديناميكيات الاقتصادية والسياسية والثقافية المعقدة في أي مجتمع سريع التغير. فالتغيير لا يأتي من تفسيرات قرآنية "تم إصلاحها"، بل إن الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية هي التي ستحدث تغييرًا تدريجيًا في الشرق الأوسط، وبمرور الوقت، ومع بعض الحظ، يمكن للحكم الأفضل في البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن يمهد الطريق أيضًا لتفسير أكثر تقدمًا لإيمان المسلم، وسيظل الإسلام دائمًا ما يصنعه المسلمون منه. وستعتمد الطريقة التي يفسر بها المسلمون دينهم نهاية المطاف على سياقاتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية المتنوعة.
- تدور أسئلة الحكم، التي تعد إحدى أدواته التحليلية لفهم المنطقة، حول: هل الدولة مجهزة بمؤسسات سياسية شفافة وخاضعة للمساءلة وشاملة؟ وبدلًا من الاستقرار مع الإكراه الوحشي، هل تستطيع الحكومة توفير حكم القانون والقدرة الاقتصادية والحقوق السياسية والحريات الفردية؟ وهل يمكن تحقيق الأمن والقدرة الاقتصادية والشرعية السياسية في آن واحد؟ بالطبع لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا من خلال تطوير فهم قوي للديناميكيات المؤسسية وراء الحوكمة، وتوضح أمثلته الثلاثة في هذا الكتاب: تركيا، والصراع الطائفي السني الشيعي، وداعش، أن الحكم أداة تحليلية رئيسية لفهمها.
- بالإضافة إلى الحكم، تلعب القومية دورًا مهمًا بنفس القدر في تحليله؛ فالقومية تفشل التعميمات الكاسحة حول الثقافة الإسلامية والإسلام السياسي في تفسير سبب تباين المصالح والأولويات والاستراتيجيات الوطنية للدول القومية المختلفة التي تمارس نفس الدين. ومع تضارب أجندات الأمن القومي، تتبع الدول في الشرق الأوسط استراتيجيات عدائية في كثير من الأحيان. وتوفر القومية التصحيح الرئيسي لمغالطة إسلامية متراصة؛ فالدول القومية المختلفة لديها مصالح وطنية وأهداف إستراتيجية متنافسة. ومع ذلك، فإن الميل إلى المبالغة في تقدير الإسلام غالبًا ما ينسى أنه لا تتفاعل جميع الدول الإسلامية مع الإسلام بنفس الطريقة. وغني عن البيان أيضًا أن الدول الإسلامية المختلفة ذات التقاليد السياسية المختلفة لها أيضًا تفسيرات مختلفة للإسلام.
حتى الحركات الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي تحاول جاهدة أن تضع وجهًا مشتركًا للإسلاموية، لديها أجندات منفصلة مدفوعة بسياقها الوطني المتنوع. ومرة أخرى، يأخذ السياق المحلي الأولوية على النص المقدس، هكذا يؤكد المؤلف.
يكثف رسالته مختتما "إن هوسنا بالإسلام لن يجعل الصراع الحضاري أبديًا فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى تأجيج مشاعر الاستياء والإحباط لدى ملايين المسلمين"
قد تضيع هذه الاختلافات أمام الجمهور الأميركي أو الأوروبي الذي يركز على إسلام موحد يصطدم بالغرب، لكن تنوع الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي المنقسم على قوميات متنافسة لا يضيع على أولئك الذين ينتبهون للظروف الداخلية في كل بلد. لذلك، فإن الطريقة التي تشكل بها القومية الإسلام وتنشطه وثيقة الصلة بالموضوع، ويقدم المؤلف من خلال الفصول التي خصصت للحالات الثلاث: كيف تتفوق القومية في كثير من الأحيان على الدين من خلال إخضاع الإسلام واستغلاله على أساس الأولويات الإستراتيجية.
ويضيف: إن الحالات الثلاث هذه متنوعة تمامًا، ومع ذلك، فإنهم يتمتعون بخاصية مشتركة مهمة بمعنى أن الرواية الغربية تتغاضى في كل منها عن الحكم والقومية، بينما تبالغ بشدة في الإسلام.
ويهدف هذا النقص التحليلي إلى إثبات أن المنظور العام للدين وعلم الكلام والهوية الإسلامية، يفشل في رؤية أسبقية المؤسسات السياسية والحكم والقومية. ونتيجة لذلك، سيكون تركيز المؤلف على القومية التركية والحوكمة الاقتصادية في سياق أردوغان، وعلى المنافسة العربية مقابل القومية الفارسية في سياق الطائفية الإقليمية السنية الشيعية، وعلى القومية الدينية السنية وراء داعش. كما أن كلا من الطائفية السنية الشيعية وداعش نتاج إلى حد كبير دول فاشلة أو ضعيفة، وفي كل هذه الحالات الثلاث، يحتل الإسلام المرتبة الثانية بعد القومية والحكم.
إن هوس المؤلف بإظهار خطأ الغرب في هوسه بالإسلام، جعله يغفل، في سبيل تأكيد نموذجه التفسيري، ظواهر عديدة تتحرك بدوافع ثقافية/دينية مباشرة، فكثير من التفاعلات عبر القومية التي يتضامن فيها المسلمون مع بعضهم البعض، تتحرك استلهامًا لبقايا مفهوم الأمة الإسلامية، وهذا مثال من أمثلة عديدة يمكن ذكرها.
أجندة العمل للغرب
كيف يمكن للغرب أن يساعد الشرق الأوسط في التغلب على مشاكله المؤسسية المتعلقة بالحكم؟ يرى المؤلف أن تحسين التحديات الأمنية والقدرات والشرعية في المنطقة يمثل تحديًا هائلاً يجب التعامل معه بمزيج من التواضع والتصميم السياسي. ويضيف أن إعطاء الأولوية للحروب الأهلية التي تغذي الصراع الطائفي، وتغيير النهج الغربي للأنظمة الاستبدادية الصديقة في المنطقة، وتحفيز الحكم الشامل بمساعدة اقتصادية وعسكرية مشروطة، هي بعض التوصيات السياسية الطموحة. ويؤكد المؤلف أن تغيير الإسلام مهمة مستحيلة، خاصة بالنسبة للغرب.
ويكثف رسالته مختتما "إن هوسنا بالإسلام لن يجعل الصراع الحضاري أبديًا فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى تأجيج مشاعر الاستياء والإحباط لدى ملايين المسلمين".